فصل: مسألة لم عظم ندم الإنسان على ما قصر فيه من إكرام الفاضل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الهوامل والشوامل***


  مسألة ما سبب تصاغي البهائم والطير إلى اللحن الشجي والجزم الندي

وما الواصل منه إلى الإنسان العاقل المحصل حتى يأتي على نفسه وهذا جار في العادة ومعروف عند المتعرفين للأمور‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ قد مر لنا في المسألة الثالثة من هذه المسائل كلام كثير في سبب قبول الإنسان بعض الأسماء وكراهية بعضها وثقل بعض الحروف وخفة بعضها وما يلحق النفس من الأصوات المختلفة بالحدة والجهارة وغير ذلك ونحن نزيد في هذا الموضع ما يليق بزيادتك في المسألة فنقول‏:‏ إن النفس وإن كانت صورة فاعلة من حيث هي كمال لجسم طبيعي إلى ذي حياة بالقوة فإنها هيولانية منفعلة من حيث هي قابلة رسوم الأشياء وصورها‏.‏

ولذلك صار لها سببان‏:‏ أحدهما إلى ما تفعل به والآخر إلى ما كان ينفعل به‏.‏

فالنفس تقبل نسب الاقتراعات بعضها إلى بعض كما تقبل نفس الاقتراعات مفرد مركبة‏.‏

وذاك أن أفراد الأصوات ومجموعها غير نسب بعضها إلى بعض لأن النسبة هي إضافة ما والنظر الإضافي غير النظر في ذوات الأدوات وكذلك تأثير هذا غير تأثير ذاك‏.‏

ولما كانت هذه النسب كثيرة مختلفة وجب فيها - ضرورة - ما يجب في الأشياء المتكثرة‏.‏

أعني أن لها طرفين‏:‏ أحدهما الزيادة والآخر النقصان‏.‏

ولها من هذين الطرفين اعتدال‏.‏

فإن كانت الأطراف كثيرة فالاعتدالات أيضاً كثيرة‏.‏

والنفس تأبى الزيادة والنقصان وتميل إلى الاعتدال ولأن لها قوى تظهر بحسب الأمزجة فلتلك القوى المختلفة إضافات مختلفة إلى نسب مختلفة واعتدالات مختلفة‏.‏

وقد اجتهد أصحاب الموسيقا في تمثيل هذه النسب وتحصيل هذه الاعتدالات بأن جعلوا لها أمثلة في مقولة الكم من العدد وإن كان بعضها بمقولة الكيف أحق لأن الصناعة مؤلفة من هاتين أعني الكم والكيف ولكن الكم الذي هو العدد أقرب إلى الأفهام ومثلوا ما كان من الكيفية بالكمية ثم لخصوا كل واحدة منهما تلخيصاً تجده مبيناً في كتبهم‏.‏

وإذا قد قلنا ما الذي يصل إلى النفس من آثار الأصوات وما المحبوب منه وما المكروه على طريق الإجمال من القول فقد تبين أن الإفراط منه والخروج إلى إحدى الجهتين يؤثر بحسب ذلك‏.‏

وقد كان تبين في مواضع كثيرة أن النفس والبدن كل واحد منهما مشتبك ما يظهر أثر أحدهما في الآخر فإن الأحوال النفسية تغير مزاج البدن ومزاج البدن أيضاً يغير أحوال النفس فإذا قوى أثر ما في النفس حتى يتفاوت به المزاج ويخرج عن اعتداله لم يقبل أثر النفس وعرض منه الموت لأن الموت ليس بأكثر من ترك النفس استعمال الآلات البدنية‏.‏

وقد علمنا أن دم القلب الذي له اعتدال ما إذا انتشر في البدن ورق بالسرور أكثر مما ينبغي أو عاد واجتمع إلى القلب بالغم أكثر مما ينبغي - عرض من كل واحدة من الحالتين الموت أو ما يقارب الموت بحسب قوة الأثر‏.‏

وما أكثر ما تؤثر الأجسام تأثيراً طبيعياً فيتأدى ذلك الأثر إلى النفس فتعرض لها حركة ما وتصير تلك سبباً لتأثير آخر في الجسم يكون به انتفاضه وخروجه عن الاعتدال‏.‏

وإذا تأملت ذلك في الأشياء المغضبة والمحزنة إذا كانت قوية تبين لك ذلك‏.‏

فهذا كاف في هذا الموضع وإن أحببت الإتساع فيه فعليك بكتب الموسيقا فإنها تشفيك إن شاء الله‏.‏

  مسألة لم كلما شاب البدن شب الأمل

قال أبو عثمان النهدي‏:‏ قد أتت علي مائة وثمانون سنة وأنكرت كل شيء إلا الأمل فإنه أحد ما كان‏.‏

ما سبب هذه الحال وعلى ماذا يدل الرمز فيها وما الأمل أولاً وما الأمنية ثانياً وما الرجاء ثالثاً وهل تشتمل هذه على مصالح العالم فإن كانت مشتملة فلم تواصى الناس بقصر الأمل وقطع الأماني وبصرف الرجاء إلا في الله - تبارك وتعالى - وإلى الله فإنه ساتر العورة وراحم العبرة وقابل التوبة وغافر الخطيئة وكل أمل في غيره باطل وكل رجاء في سواه زائل‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ هذه المسألة قد أخذ فيها فعل من أفعال النفس فقرن بفعل من أفعال الطبيعة التي بحسب البدن إلى الطبيعة والمزاج البدني ثم وقعت المقايسة بينهما وهما يتباينان لا يتشابهان فلذلك عرض التعجب منها‏.‏

فأما الشيب والنقصانات التي تعرض للبدن وعجز القوى التابعة للمزاج فهي أمور طبيعية في آلات تكل بالاستعمال وتضعف على مر الزمان‏.‏

وأما أفعال النفس فإنها كلما تكررت وأديمت فإنها تقوى ويشتد أثرها فهي بالضد من حال البدن‏.‏

مثال ذلك ان النظر العقلي كلما استعمل قوى واحتد وأدرك في الزمان القصير ما يدركه في الزمان الطويل ولحق الأمر الذي كان خفياً عنه بسرعة‏.‏

والنظر الحسي كلما استعمل كل وضعف ونقص أثره إلى أن يضمحل‏.‏

فأما الفرق بين الأمل والرجاء وبين الأمنية فظاهر وذاك أن الأمل والرجاء يعلقان بالأمور الاختيارية وبالأشياء التي لها هذا المعنى‏.‏

فأما الأمنية فقد تتعلق بما لا اختيار له ولا روية فإنه ليس يمنع مانع من تمنى المحال والأشياء التي لا تمييز فيها ولا لها‏.‏

والأمل أخص بالمختار‏.‏

والرجاء كأنه مشترك وقد يرجو الإنسان المطر والخصب وليس يأمل إلا من له قدرة وروية‏.‏

وأما المنى فهو - كما علمت - شائع في الكل ذاهب كل مذهب فقد يتمنى الإنسان أن وليس يرجو هذا ولا يأمله‏.‏

ثم قد يرجو المطر وليس يأمل إلا منزل القطر ومنشىء الغيث‏.‏

فهذه فروق واضحة‏.‏

فأما قولك لم تواصى الناس بقصر الأمل وقطع الأماني وصرف الرجاء إلا في الله تعالى فأقول‏:‏ لأن سائر الأشياء المأمولة والمرجوة والمتمناة منقطعة المدد متناهية العدد ثم هي متلاشية في أنفسها مضمحلة بائدة فاسدة لا يثبت شيء منها على حال لحظة واحدة فلو وصل الواصل إليها وبلغ نهمته منها لأوشك ان يتلاشى ويضمحل ذلك الشيء في نفسه أو يتلاشى ويضمحل الأمل فيه آو رجاؤه وتمنيه‏.‏

فأما ما اتصل من هذه بالله - تعالى ذكره - فهو أبدى غير منقطع ولا مضمحل بل الله - تعالى - دائم الفيض به أبدى الجود منه‏.‏

تعالى اسمه وتقدس ولا قوة إلا به وهو حسبنا ومعيننا وناصرنا وهادينا إلى صراط مستقيم‏.‏

  مسألة لم صارت غيرة المرأة على الرجل أشد من غيرة الرجل على المرأة

هذا في الأكثر والأقل وكيفما كان ففيه خبىء وهو المشدد على وقد أدت الغيرة جماعة إلى تلف النفوس وإلى زوال النعم وإلى الجلاء عن الأوطان‏.‏

ثم فلت في المسألة التالية لهذه‏:‏ ما الغيرة أولاً وما حقيقتها وكيف أصلها وفصلها وعلى ماذا يدل اشتقاقها وهل هي محمودة أو مذمومة وهل صاحبها ممدوح أم ملوم فإن إثارة هذا أبلغ بك إلى الفوائد وأجرى معك إلى الأمد وبوقوفك عليها تعرف غيرها وتتخطى إلى ما عداها‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ أما الغيرة فهي خلق طبيعي عام للإنسان والبهائم‏.‏

وهو ممدوح إذا كان على شرائط الأخلاق‏.‏

أعني إذا وضع في خاص موضعه ولم يتجاوز به المقدار الذي يجب ولم ينقص عنه على مثال ما ذكرناه فيما مضى من سائر الأخلاق كالغضب والشهوة‏.‏

فإن هذه أخلاق طبيعية وإنما يحمد منها ما لم يخرج عن الاعتدال أو أصيب به موضعه الخاص به‏.‏

وحقيقة الغيرة هي منع الحريم وحماية الحوزة لأجل حفظ النسل والنسب فكل من كانت غيرته لأجل ذلك ثم لم يتجاوز ما ينبغي حتى يحكم بالتهمة الباطلة فيصدق بالظنون الكاذبة ويبادر إلى العقوبة على ذلك ولم ينقص عما ينبغي حتى يتغافل عن الدلائل الواضحة ويترك الامتعاض من الرؤية والسماع إذا كان حقاً وكان معتدل الخلق بين هذين الطرفين يغضب كما ينبغي وعلى ما ينبغي - فهو محمود غير ملوم‏.‏

فأما من فرط أو أفرط في الغيرة فسبيله سبيل من تجاوز الاعتدال في سائر الأخلاق إلى الزيادة أو النقصان‏.‏

فقد بينا إن الزيادة والنقصان في كل خلق يهجم بصاحبه على ضروب من الشر وأنواع من البلايا والمكاره ويكون هلاكه على مقدار زيادته أو نقصانه منها ومن شرائطها المذكورة في الأخلاق‏.‏

فأما زيادة حظ الأنثى على الذكر من الغيرة أو الذكر على الأنثى فليس بلازم طريقة واحدة ولا جار على وتيرة واحدة‏.‏

بل ربما زاد ذكر على أنثاه في هذا المعنى وربما زادت أنثى على ذكرها فيه كما يعرض لهما ذلك في قوة الغضب وغيره من الأخلاق‏.‏

على أن الذكر أولى بالمحاماة وأخص بهذا الخلق لأنه تستعمل فيه قوة الغضب والشجاعة وهذا أولى بالذكر منه بالأنثى وإن كانت الأنثى تشارك فيه الذكر‏.‏

وههنا خلة لا بأس بذكرها والتنبيه عليها فإن كثيراً من الناس يضل عن وجه الصواب فيها وهي أن الغيرة إذا هاجت قوتها وكان سببها الشهوة وجب الاستئثار وأن يختص الإنسان بحال لا يشاركه فيها غيره وكان هذا العارض له في غير حرمته ولا من أجل حفظ نسبه وزرعه - فهو أمر قبيح‏.‏

وإن كانت على شرائطها التي ذكرت فهو أمر حسن جميل‏.‏

وأما سقوط هذه القوة دفعة فهجنة قبيحة فقد نجد في بعض الحيوان من لا تعرض له الغيرة كالكلب والتيس ويسب به الإنسان إذا ذكر به وسمي باسمه‏.‏

ونجد أيضاً بعضها غيوراً محامياً كالكبش وغيره من فحول الحيوان فيمدح بذكره الإنسان إذا شبه به وسمي باسمه‏.‏

فلست اعرف وجه السب بالتيس والمدح بالكبش إلا لما يظهر من هذا الخلق في أحدهما دون الآخر‏.‏

فهذه حال الغيرة وحقيقتها وما يجب أن يمدح منها أو يذم‏.‏

  مسألة ما السبب في أن الذين يموتون وهم شبان أكثر من الذين يموتون وهم شيوخ

الشاهد على ذلك أنك تجد الشيوخ أقل ولولا ذلك لكانوا يكثرون لأنهم كانوا يتجاوزون الشبيبة إلى الكهولة والكهولة إلى الشيخوخة فلما دب الحمام في ذوي الشباب أفناهم وتخطى القليل منهم فبلغوا التشيخ وهو قليل‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ الحياة تابعة لمزاج ما خاص بإنسان إنسان‏.‏

وذلك المزاج له بمنزلة النقطة من الدائرة‏.‏

أعني أنه شيء واحد والخروج عنه إلى النقط التي حواليه مما يقرب منه أو يبعد عنه بلا نهاية‏.‏

وذلك أن لكل إنسان وبالجملة لكل حيوان - اعتدالاً خاصاً به بين الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة فإذا انحرف عن ذلك الاعتدال إلى أحد الأطراف كان مرضه أو هلاكه‏.‏

ثم إن الأمور التي تخرجه إلى الأطراف كثيرة من الأغذية والأشربة والهواء الواصل إليه بالاشتتشاق وغيره وحركاته الطبيعية وغير الطبيعية مما يخرجه عن هذا الاعتدال - كثيرة‏.‏

والآفات الأخرى التي تطرأ من خارج مما لا تحتسب كثيرة‏.‏

وإذا كانت الأسباب التي يخرج الإنسان بها عن الاعتدال كثيرة بلا نهاية والأسباب التي يثبت بها على الاعتدال الخاص به قليلة ويسيرة - لم يكن ما ذكرته عجباً بل العجب لو اتفق ضده‏.‏

ولولا أن العناية الموكلة بحفظ الحيوان كله - والإنسان من بينه - شديدة والوقاية له تامة بالغة فتأمل جميع ما ذكرته من الآفات الداخلة والخارجة عن بدن الإنسان وحركاتها المختلفة أعني منازعة النارية فيه إلى حركة العلو ومنازعة المائية منه إلى حركة السفل ثم حرص كل واحد منهما بطبيعته على إفناء الآخر وإحالته ثم المجاهدة الواقعة في حفظ الاعتدال بينهما حتى لا تزيد قوة أحدهما على الآخر مع كثرة الشهوات والمنازعات إلى ما هو لا محالة زائد في أحدهما ناقص من الآخر - تجد الأمر محفوظاً بعناية شديدة إلى أكثر مما يمكن في مثله من الحفظ حتى يأتي شيء طبيعي لا سبيل إلى مقاومته‏.‏

ومثل ذلك سراج يحفظ بالفتيلة والدهن والمواد تجيئه من خارج أعني الدهن الكثير الذي هو سبب إطفائه والنار العظيمة التي هي كذلك والرياح العاصفة التي لا طاقة له بها ولا سبيل إلى حفظه معها فإذا سلم من جميع ذلك مدة طويلة فلا بد من الفناء الطبيعي‏.‏

أعني أن الحرارة تستغرق - لا محالة - ما يغتذى به على طول الزمان فيكون الفناء به ومن أجله‏.‏

فإن هذا مثل صحيح مطابق للممثل به‏.‏

وإذا تفقدت الحرارة الغريزية وحاجتها إلى ما تحفظ قواها بلا زيادة ولا نقصان وإفنائها الرطوبة الأصلية مع المواد التي تأتيها من خارج وقوتها على الإحالة وضعفها - طلعت على ما سألت مسألة ما السبب في طلب الإنسان فيما يسمعه ويقوله ويفعله ويرتئيه ويروى فيه - الأمثال وما فائدة المثل وما غناؤه من مأتاه وعلى ماذا قراره فإن المثل والمثل والمماثلة والتمثيل كلاماً رائقاً وغاية شريفة‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الأمثال إنما تضرب فيما لا تدركه الحواس مما تدركه‏.‏

والسبب في ذلك أنسنا بالحواس وإلفنا لها منذ أول كونها ولأنها مبادىء علومنا ومنها نرتقي إلى غيرها‏.‏

فإذا أخبر الإنسان بما لم يدركه أو حدث بما لم يشاهده وكان غريباً عنده - طلب له مثالاً من الحس فإذا أعطي ذلك أنس به وسكن إليه لإلفه له‏.‏

وقد يعرض في المحسوسات أيضاً هذا العارض‏.‏

أعني أن إنساناً لو حدث عن النعامة أو الزرافة والفيل والتمساح لطلب أن يصور له ليقع عليه ويحصل تحت حسه البصري ولا يقنع فيما طريقه حس البصر بحس السمع حتى يرده إليه فهذا الأمر في الموهوبات فإن إنساناً لو كلف أن يتوهم حيواناً لم يشاهد مثله لسأل عن مثله وكلف مخبره أن يصور له مثل عنقاء مغرب فإن هذا الحيوان وإن لم يكن له وجود فلا بد لمتوهمه أن يتوهمه بصورة مركبة من حيوانات قد شاهدها‏.‏

فأما المعقولات فلما كانت صورها ألطف من أن تقع تحت الحس وأبعد من أن تمثل بمثال الحس إلا على جهة التقريب - صارت أخرى أن تكون غريبة غير مألوفة‏.‏

والنفس تسكن إلى مثل وإن لم يكن مثلاً لتأنس به من وحشة الغربة‏.‏

فإذا ألفتها وقويت على تأملها بعين عقلها من غير مثال سهل حينئذ عليها تأمل أمثالها‏.‏

والله الموفق لجميع الخيرات‏.‏

  مسألة كيف قوى الوهم على أن ينقش في نفس الإنسان أوحش صورة وأمقت شكل

وأقبح تخطيط ولم يقو على أن يصور أحسن صورة وألطف شكل وأملح تخطيط ألا ترى أن الإنسان كلما اعترض في وهمه أوحش شيء عرته شمأزيزة وعلته قشعريرة ولحقه صدوف ورهقه نفور فلو قوى الوهم على تصوير أحسن الحسن تعلل به الإنسان عند فراغ فما هذا وكيف هذا ولا عجب فلهذا الإنسان من هذه النفس والعقل والطبيعة أمور تستنفد العجب وتحير القلب‏.‏

جل من أودع هذا الوعاء هذه الطرائف وعرضه لهذه الغايات وزين ظاهره وحسن باطنه وصرفه بين امن وخوف وعدل وحيف وحجبه في أكثر ذلك عن لم وكيف‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبوعلي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الحسن هو صورة تابعة لاعتدال المزاج وصحة مناسبات من الأعضاء بعضها إلى بعض في الشكل واللون وسائر الهيئات‏.‏

وهذه حال لا يتفق اجتماع جميع أجزائها على الصحة ولذلك لا تقوى الطبيعة نفسها على اتخاذها في الهيولى على الكمال لأن الأسباب لا تساعد عليها أعني أنه لا يتفق في الهيولى والأشكال والصورة والمزاج أن تقبل الصورة الأخيرة على غاية الصحة‏.‏

فإذا كانت الطبيعة تعجز عن إيجاد هذا الاعتدال وهذه المناسبة الصحيحة التي يتبعها الحسن التام فكم بالحرى يكون الوهم أعجز عنه وإنما الوهم تابع للحس والحس تابع للمزاج والمزاج تابع أثر من آثار الطبيعة‏.‏

ومثال ذلك أن الأوتار الكثيرة إنما يطلب بها وبكثرة الدساتين عليها أن تخرج من بينهما نغمة مقبولة وتلك النغمة إنما يتوصل إليها بجميع الآلة وأجزائها من الأوتار والدساتين بالقرعات فالنغمة وإن كانت واحدة فإنها تتم بمساعدة جميع تلك الإجزاء‏.‏

فإن خان واحد منها خرجت النغمة كريهة‏:‏ إما بعيدة من القبول وإما قريبة على قدر عجز الأسباب وقصور بعضها‏.‏

فكذلك الهيولى في حاجتها إلى مزاج ما بين اسطقصات وصور أخرى كثيرة تصير بجميعها مستعدة لقبول صور الحسن الذي هو اعتدال ما ومناسبة ما صحيحة بين أمزجة وأعضاء في الهيئة الشكل واللون وغيرها من الأحوال التي مجموعها كلها هو الحسن‏.‏

والحسن وإن كان أمراً واحداً وصورة واحد فهو مثل النغمة الواحدة المقبولة التي تحتاج إلى هيئات كثيرة وصور مختلفة جمة ليحصل من بينها هذا الاعتدال المقبول‏.‏

والوهم في خروجه عن الاعتدال سهل الحركة‏.‏

فأما في حفظه إياه وتوصله إليه فإنه يحتاج إلى تعب شديد وأخذ مقامات كثيرة واستخراج اعتدال بينها‏.‏

وهكذا الحال في كل اعتدال فإن حفظه والثبات عليه صعب‏.‏

فأما الخروج عنه فهو بأدنى حركة‏.‏

فإن اتفق أن يكون لذلك الاعتدال تمامات من خارج ومعاونات من أمور مختلفة كانت الصعوبة

  مسألة لم صار السرور إذا هجم تأثيره أشد وربما قتل

وقد حكي الثقة من تأثيره أموراً‏.‏

ولقد خبرت والدة بعض الناس أن ابنها ولى إمرة فبرقت وانحرفت وما زالت تنتقض حتى ماتت‏.‏

وقال لي ابن الخليل‏:‏ الحيرة التي تلحق واجد الكنز هي من إفراط فرحه وغلبة سروره ولذلك ما يبين على شمائله وينم بحركاته ويضيق عطنه عن كتمانه مابه وسياسته‏.‏

ولا تكاد تجد هذا العارض في الغم والهم النازل الملم وقل ما وجد من انشقت مرارته وانتقضت بنيته وانحلت معاقدة ومآسره بخبر ساءه وناءه ومكروه غشيه وناله‏.‏

فإن كان فهو أيضاً قليل وإن ساوى عارض السرور فذاك أعجب والسر فيه أغرب‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ قد مر جواب هذه المسألة في عرض ما تكلمنا عليه في المسائل المتقدمة‏.‏

وقلنا‏:‏ إن النفس تؤثر في المزاج المعتدل عن البدن وكما أن المزاج يؤثر في النفس وبينا جميع ذلك وضربنا له الأمثال‏.‏

وما ذاك إلا لانبساط الدم من ذاك في ظاهر البدن وغوره من الآخر إلى قعر البدن‏.‏

والحرارة التي في القلب هي التي تفعل هذا أعني أنها تنبسط فترق الدم تارة وتنقبض فتغلظة أخرى‏.‏

ويتبع ذلك الحال السرور ويتبع هذه الغم‏.‏

فإذا كان زائد المقدار في أي الطرفين كان - تبعه الخروج عن الاعتدال‏.‏

وبحسب الخروج عن الاعتدال يكون الموت الوحي أو المرض الشديد‏.‏

  مسألة ما السبب في أن إحساس الإنسان بألم يعتريه أشد من إحساسه بعافية تكون فيه

حتى لو شكاً يوماً لأن أياماً وهو يمر في لباس العافية فلا يجد لها وقعاً وإنما يتبينه إذا مسه وجع أو دهمه فزع ولهذا قال الشاعر‏:‏ والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي انباك كيف نعيمها ومما يحقق هذا أنك تجد شكوى المبتلى أكثر من شكر المعافي وإنما لوجدان أحدهما مالاً يجده الآخر‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ السبب في ذلك أن العافية إنما هي حال ملائمة موافقة للحال الطبيعي من المزاج المعتدل الموضوع لذلك البدن‏.‏

والملائمة والموافقة لا يحس بهما وإنما الحس يكون للشيء الذي لا موافقة فيه‏.‏

والسبب في ذلك أن الحس إنما أعطي الحيوان ليتحرز به من الآفات الطارئة عليه وليكون ألمه بما يريد عليه مما لا يوافقه سبباً لتلافيه وتداركه قبل أن يتفاوت مزاجه ويسرع هلاكه‏.‏

فأنشئت لذلك أعصاب من الدماغ وفرقت في جميع البدن ونسجت بها الأعضاء التي تحتاج إلى إحساس كما بين ذلك في التشريح وفي منافع الأعضاء‏.‏

فكل موضع من البدن فيه عصب فهناك حس وكل موضع خلا منه فلا حس فيه‏.‏

ولم يخل منه إلا ما لا حاجة به إلى حس‏.‏

وإنما وفرت الأعصاب على الأعضاء الشريفة لتصير أذكى حساً ولتكون بما يرد عليها من الآفات أسرع إحساساً‏.‏

وكل ذلك ليبادر إلى إزالة ما يجده من الألم بالعلاج ولا يغفل عنه بتوان ولا غيره‏.‏

ولو خلا الإنسان من الحس ومن الألم ومكانه لكان هلاكه وشيكاً من الآفات الكثيرة‏.‏

وأما الحال الملائمة فلا يحتاج إلى إحساس بها‏.‏

وهذه حال جميع الحواس الخمس في أحوالها الطبيعية وانها لا تحس بما يلائمها وإنما تحس بما لا يوافقها‏.‏

أقول‏:‏ إن حس اللمس الذي هو مشترك بجميع البدن إنما يدرك ما زاد أو نقص عن اعتداله الموضوع له فإن البدن له اعتدال من الحرارة مثلاً فإذا لاقاه من حرارة الهواء ما يلائمه ويوافقه لم يحس به أصلاً‏.‏

فإن خرج الهواء عن ذلك الاعتدال الذي للبدن إما إلى برد أو حر أحس به فبادر إلى تلافيه وإصلاحه‏.‏

وكذلك الحال في البرد والرطوبة واليبوسة‏.‏

فأما سائر الحواس فلكل واحد منها اعتدال خاص به لا يحس بما يلائمه وإنما يحس بما يضاده ويزيله عن اعتداله كالعين فإنها لا تحس بالهواء وبكل ما لا لون له ولا كيفية تزيلها عن اعتدالها‏.‏

وكذلك السمع وباقي الحواس‏.‏

وهذا باب مستقصى في مواضعه من كتب الحمسألة لم اشتد عشق الإنسان لهذا العالم حتى لصق به وآثره وكدح فيه مع ما يرى من صروفه وحوادثه ونكباته وغيره وزواله بأهله ومن أين استفاد الإنسان هذا العرض‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ وكيف لا يشتد عشقه إلى للعالم وهو طبيعي وجزء له إنما مبدؤه منه ومنشؤه فيه وتولده عنه ألا تراه يبتدىء وهو نطفة فينشأ نشوء النبات أعني أنه يستمد غذاءه بعروق موصولة برحم أمه فيستقي المادة التي تقيمه كما تستقي عروق الشجر فإذا تم وصار خلقاً آخر وأنشأه الله - تعالى - حيوان أخرجه من هناك فحينئذ يغتذى بفمه ويتنفس فيصير في مرتبة الحيوان غير الناطق ولا يزال كذلك إلى أن يقبل صورة النطق أولاً فيصير إنساناً ثم يتدرج في إنسانيته حتى ينتهي إلى غاية ما يؤهل له من المراتب فيها وليس ينتهي إلى الرتبة الأخيرة التي هي غاية الإنسانية إلا الأفراد من الناس والواحد بعد الواحد في الأزمنة الطوال والفترات الكثيرة‏.‏

وعامة الخلق وجمهور الناس واقفون في منزلة قريبة من البهيمية وغاية نطقهم وتمييزهم أن يرتبوا تلك البهيمية ترتيباً ما فيه نظامك عقلي‏.‏

وأما أن يفارقوها ويصيروا إلى الحد الذي طالبت به فلا وإنما يصير إلى هناك الحكيم التام الحكمة الذي يستوفي جميع أجزائها علماً وعملاً أو نبي له تلك المنزلة بالإلهام والتوفيق ثم لابد من المادة البشرية التي يأخذها من هذا العالم وإن كان بلا عشق ولا لصوق شديد ولا إيثار‏.‏

وهذا المعنى واسع البحر طويل الميدان قد أكثر فيه الناس وفيما أومأت إليه وصرحت به والسلام‏.‏

  مسألة لم قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا

وما في الحياة الحمقى من الفائدة على الدين والدنيا وهل الذي قالوه حق‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبوعلي مسكويه - رحمه الله‏:‏ قد تبين أن الإنسان مدني بالطبع وأنه لا يعيش متوحداً كما تعيش الطير والوحش لأن تلك مكتفية بما خلق لها من الرياش والهداية إلى مصالحها وأقواتها والإنسان عار لا طاقة له ولا هداية إلى قوته ومصلحته إلا بالاحتماع والتعاون هو المدنية‏.‏

ثم إن المدينة لها حال تسمى بالأولى عمارة وبالإضافة إلى الأولى‏.‏

فأما حال عمارتها فإنما يتم بكثرة الأعوان وانتشار العدل بينهم بقوة السلطان الذي ينظم أحوالهم ويحفظ مراتبهم ويرفع الغوائل عنهم‏.‏

وأعني بكثرة الأعوان تعاون الأيدي والنيات بالأعمال الكثيرة التي بعضها ضرورية في قوام العيش وبعضها نافعة في حسن الحال في العيش وبعضها نافعة في تزيين العيش فإن اجتماع هذه هي العمارة‏.‏

فأما إن فات المدنية واحدة من هذه الثلاث فإنها خراب‏.‏

وإن فاتها اثنتان - أعني حسن الحال والزينة جميعاً - فهي غاية في الخراب وذلك أن الأشياء الضرورية في قوام العيش إنما يتبلغ بها الزهاد الذين لا يعمرون الدنيا وليسوا في عدد العمار‏.‏

وعمارة الدنيا التامة وقوامها بثلاثة أشياء هي كالأجناس العالية ثم تنقسم إلى أنواع كثيرة‏.‏

وأحد الأشياء الثلاثة إثارة الأرض وفلاحتها بالزرع والغرس والقيام عليها بما يصلحها ويستعد لما يراد منها اعني الآلات المستخرجة من المعادن كالحجارة والحديد المستعملة في إثارة الحرث والطحن وإساحة الماء على وجه الأرض من العيون والأنهار والقنى والدوالى وغير ذلك‏.‏

والثاني آلات الجند والأسلحة المستعملة لهم في ذب الأعداء عن أولئك الذي وصفناهم ليتم لجماعتهم العيش ويقام غرضهم فيما اجتمعوا له بالمعاونة‏.‏

وللجند أيضاً صناع وأصحاب حرف فهم يعدون لهم الخيل بالرياضة والجنن للوقاية وسائر الأسلحة للدفع والذب‏.‏

والثالث الجلب والتجهيز الذي يتم بنقل ما يعز في أرض إلى أرض وما يكون في بحر إلى بر‏.‏

ولها أصحاب يختصون بجزء جزء من أقسام الأحوال الثلاثة التي ذكرناها‏.‏

وينبغي أن تعلم أن العيش غير جودة العيش وحسن الحال في العيش لتعلم أن العمارة متعلقة بجودة العيش وحسن حاله‏.‏

وقد عرف أن هذه الأمور لا تتم إلا بالمخاطرات الكثيرة وركوب الأهوال واحتمال المشاق والتعرض للمخاوف‏.‏

ولو تبلغ الناس بضروراتهم وطرحوا فضول العيش وعملوا بما يقتضيه مجرد العقل لصاروا كلهم زهاداً ولو كانوا كذلك لبطل هذا النظام الحسن والزين الذي في العالم وعاشوا عيشة قشفة كعيشة أهل القرى الضعيفة القليلة العدد أو كعيشة سكان الخيم وبيوت الشعر وأظلال القصب‏.‏

وهذه هي الحال التي تسمى خراب المدن‏.‏

فأما قولك‏:‏ هل يسمى القوام بعمارة الدنيا حمقى فأقول‏:‏ إنه لا يجوز أن يسميهم بذلك كل أحد وذلك ان الذين وصفنا أحوالهم من سكان القرى وأطراف الأرض والذين لا يكملون لتحسين معايشهم هم اولى بهذا النبز من الذين استخرجوا بعقولهم وصفاء أذهانهم ودقة نظرهم - هذه الصناعات الكثيرة الجميلة العائدة بمنافع الناس‏.‏

وإنما يسوغ ذلك لمن أطلع على جميع العلوم والمعارف وميزها ونزلها منازلها فترك ما ترك منها عن خبر وعلم وآثر ما آثر منها على روية وبعد يقين فإن الحكماء إنما تركوا النظر في عمارة الدنيا لأنها عائدة بعمارة الأبدان ولما اطلعوا على شرف النفس على البدن ورأوا لها عالماً آخر وجمالاً يليق بذلك العالم وصناعات وعلوماً ومسالك ركوبها أشق وأعسر من ركوب مخاطرات الدنيا ولزوم محجتها والدءوب فيها بالنظر والعمل أصعب وأكثر تعباً من الدءوب والعمل في الدنيا - آثروا التبلغ وتبلغوا بالقوت الضروري من الدنيا على أنهم هم الذين عملوا لهؤلاء أصول الصناعات والمهن وتركوهم وإياها لما لم يكملوا لغيرها ثم اشتغلوا وشغلوا من جالسهم بالأمر الأعلى الأفضل‏.‏

مسألة ما السبب في قلق من تأبط سوأه واحتضن ريبة واستسر فاحشة

حتى قيل - من أجل ما يبدو على وجهه وشمائله -‏:‏ كاد المريب يقول خذوني وما هذا العارض ومن أين مثاره وبأي شيء زواله‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ هذه المسألة إنما تعترض الحيرة فيها لمن لا يعترف بالنفس وأن حركات البدن الاختيارية كلها إنما تكون بها ومنها‏.‏

فأما من علم أن النفس هي المدبرة لبدن الحي ولا سيما الإنسان المختار الذي مدبره النفس المميزة العاقلة فلا أعرف لحيرته وجهاً‏.‏

وذاك ان النفس إذا عرفت شيئاً واستعملت ضد ما يليق بتلك المعرفة لحقها من الاضطراب ما يلحق الطبيعة إذا كانت حركتها يمنة فحركت يسرة بقوة دون قوتها أو مساوية لها‏.‏

فإن الاضطراب يظهر هناك مثل ما يظهر ههنا‏.‏

  مسألة لم إذا كان الواعظ صادقاً نجع كلامه ونفع وعظه وسهل الاقتداء به

وخفت الطاعة له والأخذ بما قاله ولم إذا كان بخلاف ذلك لم يؤثر كلامه وإن راق ولا ينفع وعظه وإن بلغ وما في انسلاخه من حقيقة ما يقول مع حقيقة القول وصحة الدلالة وسطوع الحجة وكيف صار فعله مشيداً لقوله وخلافه موهناً لدلالته ألست الحكمة قائمة في نفسها مستقلة بصحتها ولهذا قيل‏:‏ الموعظة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ لأن المواعظ إنما يأمر بما عنده أنه الأصوب فإذا خالف نفسه أوهم غيره أنه كذب وغش وإنما نهى عن الدنيا لتترك له وتوفر عليه‏.‏

وظن من عجز عن رتبته وسقط عن بلوغ درجته في النظر أنه إنما يقتدر على الوعظ بحسن اقتداره على التلبيس وإظهار المموه في صورة الحق‏.‏

ولو اعتقد ما يظهر بلسانه لعمل بحسبه فهذا وأشباهه يعرض في قلب المستمع لوعظ من لا يعمل بوعظه‏.‏

هذا‏.‏

وربما كان أكثر من تراه من الواعظين هو بالحقيقة غير معتقد لما يظهره وإنما غايته أن يشغل الناس عما في أيديهم أو لتتم له رئاسة باجتماع الناس إليه أو لأرب له من الدنيا‏.‏

فأي موقع لكلام مثل هذا إذا عرف الموعوظ غايته وأشرف على نيته ومذهبه‏.‏

والأمر بالضد فيمن عمل واجتهد وأخلص سره ووافق عمله علمه وقوله نيته فإنه يصير إماماً يقتدى به ويوثق بكلامه ويكثر اتباعه والناظرون فيما ينظر فيه والمصدقون بحكمه‏.‏

  مسألة لم عظم ندم الإنسان على ما قصر فيه من إكرام الفاضل

وتعظيمه واقتباس الحكمة منه بعد فقده ولم كان يعرض له الزهد فيه مع التمكن منه والانقطاع إليه وقد كان في الوقت الأول أفرغ قلباً وأوسع مذهباً‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ هذه مسألة قد أجيب عنها فيما تقدم ولا معنى لتكرير الكلام فيها‏.‏

  مسألة لم اعتزت العرب والعجم في مواقف الحروب

وأيام الهياج والاعتزاء هو الانتساب إلى الآباء والآجداد وإلى أيام مشهورة وأفعال مذكورة‏.‏

وما الذي حرك أحدهم من هذه الأشياء حتى ثار وتقدم وبارز وأقدم وأخطر نفسه واقتحم وربما سمع في ذلك الوقت بيتاً أو تذكر مثلاً أو رأى من دونه في البيت والمنصب والعرق والمركب دون ما يقدر - يفعل فوق ما يفعل فتأتيه الأنفة فتقوده بأنفه إلى مباشرة حتفه ما هذه الغرائب المبثوثة والعجائب المدفونة في هذا الخلق عن هذا الخلق جل من هذا بعلمه وبأمره ومن فعله وهو الإله الذي انقادت له الأشياء طوعاً وكرهاً وأشارت إليه تعريضاً وتصريحاً‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ الغضب في الإنسان يكون بالقوة إلى أن يخرجه إلى كذلك سائر قوى النفس‏.‏

وما يخرجه إلى الفعل ينقسم قسمين‏:‏ إما من خارج وإما من داخل‏.‏

فالذي يكون من خارج فهو مثل انتهاك الحرمة وشتم العرض وما أشبه ذلك‏.‏

والذي يكون من داخل فهو تذكر الذنوب والأحقاد وجميع الأحوال التي من شأنها قدح هذه القوة‏.‏

ومن شأن النفس إذا كانت ساكنة والتمر الإنسان فعلاً قوياً منها لم تستجب له الأعضاء عما يلتمس فحينئذ يضطر إلى تحريك النفس وإثارتها‏.‏

وبحسب تلك الحركة من النفس تكون قوة ذلك الفعل‏.‏

وأنت تتبين ذلك من المسرور إذا أراد أن يظهر غضباً أو يفعل فعل الغضوب كيف تتخاذل أعضاؤه ويظهر عليه أثر التكلف فربما أضحك من نفسه وضحك هو أيضاً في أحوج ما كان إلى قوة الغضب فيحتاج في تلك الحال إلى إثارة القوة الغضبية بتذكر أمر يهيج تلك القوة حتى يصدر فعله على ما ينبغي‏.‏

وهذه الحال تعرض في الحرب إذا لم يخص المحارب أمرها‏.‏

وأعني بذلك أن المحارب ربما حضر الحرب التي لا يخصه أمرها بل لمساعدة غيره أو لأجرة وهو تذكر لأحوال شجاعات ظهرت لأولين ليكون ذلك قدحاً له وإثارة لشجاعته وسبباً لحركة قوية من نفسه‏.‏

فإذا ثارت هذه القوة كان مثلها مثل النار التي تبتدىء ضعيفة وتقوى بمباشرة الأفعال وبالإمعان فيها حتى تصير تلك الأفعال لها بمنزلة المادة للنار تتزيد بها إلى أن تلتهب وتستشيط ويصير بمنزلة السكران في قلة الضبط والتمييز‏.‏

وهي الحال التي يلتمسها المحارب من نفسه‏.‏

  مسألة ما السبب في أن الناس يقولون هذا الهواء أطيب من ذلك الهواء

وذلك الماء أعذب من ذلك الماء وتربة بلد كذا وكذا أصلب من تربة كذا وطين مكان كذا أنعم من طين مكان كذا وأعفن وأسبخ ثم لا يقولون في قياس هذا‏:‏ بلد كذا ناره أجود وأحسن وأصفى أو أشد حراً وإحراقاً وأعظم لهيباً بل يصرفون هذه الصفات على اختلاف المواد كأنها في الحطب اليابس أبين سلطاناً وفي القطن المنفوش أسرع نفوذاً‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن الأركان الأربعة وإن اشتركت في ان بعضها يأخذ قوة بعض الأقل والأكثر حتى يكون بعضها أخلص في صورته ونوعه من بعض فإن النار من بينها خاصة أقل قبولاً لقوة غيرها وأعسر ممازجة وذلك أن صورة النار غالبة على مادتها‏.‏

وبيان هذا أن الأرض تقبل من ممازجة الماء والهواء ما تستحيل به عن صورتها الخاصة بها حتى تصير منها الحمأة والملح وضروب الأشياء التي تختلف بها الترب‏.‏

وكذلك الماء يقبل من الأرض التي يجاوره والهواء الذي يليه ضروب الطعوم والأراييح والصفاء والكدر حتى يخرج من صورته الخاصة به خروجاً بيناً وهذه حال الهواء في قبول الآثار من الأرض والماء حتى يصير بعضه غليظاً وبعضه رطباً ويابساً ومعتدلاً‏.‏

فتظهر في هذه الثلاثة آثار بعضها في بعض حتى تتبين للحس بياناً ظاهراً وتنقص آثار بعضها عن بعض حتى يحكم كل إنسان بخروجه عن اعتداله وخروجه عن اعتداله سبب الاستضرار البين في الأبدان‏.‏

فأما النار فإن صورتها الخاصة بها غالبة على مائيتها حتى لا تقبل من المزاج ما يظهر للحس منه نقصان أثر من الإحراق الذي هو فعلها أو الضوء الذي هو خاصتها‏.‏

وعلى ان النار أيضاً قد تقبل من المزاج ومجاورة ما تليه أثراً ما ولكنه - بالإضافة إلى الآثار مثال ذلك أن النار التي مادتها النفط الأسود والكبريت الصرف لونها بخلاف لون النار التي مادتها الزيت الصافي ودهن البنفسج الخالص لأن تلك حمراء وهذه بيضاء‏.‏

ولكن الفعل المطلوب من النار للجمهور غير ناقص أعني الإحراق والضوء‏.‏

وأن نقص بحسب المواد فإن تلك الحال منها مشتركة في البلدان كلها لا تخص بعضها دون بعض‏.‏

وإذا حصل الناس أغراضهم من أفعال النار تبلغوا به إلى حاجاتهم ولم ينظروا في المواد التي تخص البلدان لا سيما والمواد متفقة فيها وليست هكذا أخوات النار‏.‏

  مسألة لم فرح الإنسان بنيل مال وإصابة خير من غير احتساب له

وتوقع أكثر من فرحه بدرك ما طلب ولحوق ما زوال الأنه في أحد الطرفين ينبغي طلب شيء متخير أم لغير ذلك‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن جميع ما يصيب الإنسان مما يخص نفسه أو جسمه إذا وصل إليه بتدريج قل إحساسه به وضعف ظهور أثره عليه‏.‏

أما مثال ذلك في الجسم فإن الأمراض التي يخرج بها عن الاعتدال على تدريج فليس يشعر بها إلا شعوراً يسيراً وربما لم يشعر بها ألبتة‏.‏

فإن خرج بها على غير تدريج تألم منها جداً كالحال في الدوي وأشباهه من الأمراض فإن الإنسان يخرج عن الاعتدال بها إلى الطرف الأقصى الذي يليه الموت فلا يحس بألمه لأنه على تدريج‏.‏

ولو خرج دون ذلك الخروج ضربة للحقه من الألم ما لا قوام له به‏.‏

وكذلك الحال في اللذات لأن اللذة إنما هي عود الإنسان إلى اعتداله ضربة‏.‏

فاللذة والألم حالان يستويان في انهما يردان دفعة بلا تدريج فيستويان في باب شدة الإحساس‏.‏

وهذه المسألة أحد الآثار التي ترد على الإنسان مرة بتدريج ومرة بغير تدريج فتصير حال الإنسان بما لم يحتسبه ولم يتدرج بالمزاولة حال ما يصيبه ضربة واحدة مما ضربنا مثاله فيكثر إحساسه به وظهور أثره عليه‏.‏

  مسألة لم صار البنيان الكريم والقصر المشيد إذا لم يسكنه الناس تداعى عن قرب

وما هكذا هو إذا سكن لعلك تظن أن ذلك لأن السكان يرمون منه ما استرم ويتلافون ما تداعى وتهدم ويتعهدونه بالتطرية والكنس فاعلم ان هذا ليس لذاك لأنك تعلم انهم يؤثرون في المسكن بالمثنى والاستناد وأخذ القلاعة وسائر الحركات المختلفة ما إن لم يضعفه على رمهم ولمهم كان بإزائه ومقابله‏.‏

فقد بقيت العلة على هذا وستسمعها في عرض الجواب عن جميع مسائل هذا الكتاب‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن معظم آفات البنيان يكون من تشعيث الأمطار وانسداد مجاري المياه بما تحصله الرياح في وجه المآزيب ومسالك المياه التي ترد المياه إلى أصول الحيطان من خارج البناء وداخله وبما يتثلم من وجوه البنيان الكريمة بالآفات التي تعرضها لحركات الهواء والأمطار والبرد والثلوج‏.‏

وربما كان سبب ذلك قصبة أو هشيم من تبن الطين الذي تطيره الأرواح إلى مسلك الماء فتعطف الماء إلى غير جهته فيكون به خراب البنيان كله‏.‏

فأما ظهور الهوام في أصول الحيطان والعناكب في سقوفه وأخذها من الجميع ما يتبين أثره على الأيام فشيء ظاهر وذلك أن هذا الضرب من الخراب قبيح الأثر جداً ينبو الطرف عنه ويسمج به البناء الشريف‏.‏

وربما أغفل السكان بيتاً من عرض البناء إما بقصد وإما بغير قصد فإذا فتح عنه يوجد فيه من آثار الدبيب من الفأر والحيات وضروب الحشرات التي تتخذ لنفسها أكنة بالنقب والبناء كالأرصنة والنمل وما تجمعه من أقواتها ومن نسج العنكبوت وتراكم الغبرة على النقوش - ما يمنع من دخوله‏.‏

هذا إن سلم من الوكف وتطرق المياه وهدمها لما تسيل عليه من حائط وسقف ورضه بما يثقله من طين السطوح وتقصف جميع الخشب والسنادات والعمد‏.‏

وإذا كان فيها السكان منعوا هذه الأسباب العظيمة في الخراب وكان ما يشعثونه بعد هذه الأشياء يسيراً بالإضافة إليها فكان البناء إلى العمران أقرب ومن الخراب أبعد‏.‏

  مسألة لم صار الكريم الماجد النجد يلد اللئيم الساقط الوغد

وهذا يلد ذاك على تباين ما بينهما في أغراض النفس وأخلاقها مع قرب ما بينهما في أصولها وأعراقها‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ إن أخلاق النفس وإن كانت تابعة لمزاج البدن فإن التأديب والسياسة تصلح منها إصلاحاً كثيراً‏.‏

وربما كان مزاج الابن بعيداً من مزاج الأب وانضاف إلى ذلك سوء تأديب ورداءة سياسة

  مسألة لم إذا كان الإنسان بعيداً عن وطنه ومسقط رأسه وملهى عنه

ومضطجع جنبه ومطرب نفسه ومعدن أنسه - يكون أخمد شوقاً وأقل قلقاً وأطفأ نائرة وأسلى نفساً وألهى فؤاداً حتى إذا دنت الديار من الديار وقوى الطمع في الجوار نفد الصبر وذهب القرار وحتى قال الشاعر # وأعظم ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الديار من الديار‏.‏

وهل هذا معنى يعم أو يخص وما علته وهل له علة‏.‏

الجواب‏:‏ قال أبو علي مسكويه - رحمه الله‏:‏ هذا المعنى موجود في الأشياء الطبيعية أيضاً مستمر فيها وذاك أنك لو أرسلت حجراً من موضع عال مركزه لكان يبتدىء بحركته وكلما قرب من مركزه احتدت الحركة وصارت أسرع إلى أن تصير عند قربه من الأرض على أحد ما تكون وأسرعه‏.‏

وكلما كان الموضع الذي يرسل منه الحجر أعلى كان هذا المعنى فيه أبين وأظهر‏.‏

وكذلك حكم النار والعناصر الباقية إذا أرسلت من غير أمكنتها الخاصة بها فإنها كلما قربت من مراكزها اشتدت حركتها ونزاعها‏.‏

ومثل هذه المواضع لا يسأل عنها بلم لأنها أوائل طبيعية وغايتنا فيها أن نعرفها ونعلم أنها كذلك وكذلك حال النفس في أنها إذا كانت بعيدة من مألفها كان نزاعها أيسر فكلما دنت منه اشتد نزاعها وحركتها التي تسمى شوقاً‏.‏

وإنما قلت إن هذه المواضع لا يبحث عنها بلم لأن لم إنما يبحث بها عن طلب علة ومبدأ‏.‏

وهذه مبادىء في أنفسها وليس علة أكثر من أن الأمور أنفسها كذلك أى مبادئها هي أنفسها ولم تكن كذلك لعلة أخرى مثال ذلك‏:‏ لو ان قائلاً قال‏:‏ لم صارت العين تبصر بهذه الطبقات من العين ولم صارت ترى الشيء بحسب الزاوية التي بينها وبين المبصر‏:‏ إن كانت كبيرة فكبيرة وإن كانت صغيرة فصغيرة أو سأل‏:‏ لم صارت الأذن تحس باقتراع الهواء على هذا الشكل - لم يلزم الجواب عنه لأن الأشياء الواضحة التي هي أوائل إنياتها هي لمياتها‏.‏